Home

محطات من عمر المقاومة اللبنانية

28-09-2019

بقلم الدكتور عاطف عيد

هي حالة عبّرت عن نفسها منذ ثورة ال 1958 خلال الهجمة الشرسة التي قادها آنذاك الرئيس جمال عبد الناصر مع جبهة النضال الوطني ضدّ حكم الرئيس كميل شمعون فيما كان البطريرك الكاردينال المعوشي متعاطفاً مع الثورة وقد تمثلّت في حينه بحزب الكتائب اللبنانية وبعض أنصار الرئيس شمعون الذين شكّلوا حزب الوطنيين الأحرار إضافةً إلى قوىً مستقلةٍ أخرى والقوى الشرعية اللبنانية. وعند اشتداد ضغط العمل الفلسطيني المسلّح مع اتفاقية القاهرة في العام 1969، بدا أنّ الأوضاع تتجه بسرعة نحو الانفجار متزامنة مع سباق في التسلح حتى إنّ أيّ احتكاك كان كافيا لإشعال فتيل التفجير. وقد شارك الجيش اللبناني في التصدّي لموجات مهاجمة الشرعية اللبنانية في حينه، لكنّ التركيبة الطائفية الطاغية في لبنان كانت تعطّل فعاليته.

وسط هذه الظروف، أدّت حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان من العام 1975 مع ما سبقها من محاولات زعزعة الاستقرار الأمني إلى إطلاق صفارة انطلاق العمليات العسكرية، وكانت الشرارة الأولى للحرب بداية مرحلة لمحاولة وضع اليد على لبنان وجعل طريق فلسطين تمرعبر جونية، باستهداف رموز مسيحية معينة لشخصيات في مناطق على الأطراف خصوصاً لمحاصرة الحالة المقاوِمة تمهيداً لإنهائها.

إنها البداية بداية حقبة عرفت من النجاحات والانكسارات والاندثارات التي تعمّدت بالشهادة.

لم تكن الأمور في البداية على خير ما يرام، فالمعسكر المسيحي وإن كان مصمماً وشجاعاً لكنّ الخبرات القتالية والتجهيزات والتدريب والإعداد كانت تنقصه، إلاّ أنّ الإيمان بلبنان الوطن والكيان كان كفيلاً بالسير على الدرب حتى النهاية.

وهكذا أخذت وحدات المقاومة اللبنانية، التي جُمعت أجنحتها العسكرية تحت لواء القوات اللبنانية، تناضل للحفاظ على لبنان مستقلاً سيداً موحداً. فخطت ملحمات بطولة ومقاومة أسطورية، بدءا من جرود صنين وعيون السيمان، وزحلة عروس البقاع، حيث استطاعت كوكبة من القوات اللبنانية دحر الهجمات التي شنتها الوحدات الخاصة السورية، منتزعة المدينة العريقة المقاومة من أشداق الأسد. فتعمّد السهل والجبل بدماء الشهداء المقاومين. واستمرت بالتواجد وخوض المعارك دفاعا ودرءا للمخاطر، متوّجة انتصاراتها العسكرية، بوصول قائدها الشّيخ بشير الجميل إلى سدة الرئاسة. فكانت أولى محطات اكتساب الصفة الشرعية، وانضوائها ضمن هيكلية الدولة.

إنّ زخم الانتصار أفل باستشهاد البشير، الذي بغيابه أربك الوطن. لكّنه أيقظ شعلة جديدة بضرورة الاستمرار لجبه التّحديات والمخاطر. فكان استبسال المقاومين على كلّ الجبهات. إنّما الظروف الدولية والمخططات المرسومة مسبقا، غيّرت اتجاه الأحداث بما لا تشتهيه سفينة المقاومة.

كلّ ذلك لم يحبط عزيمتها خصوصا بعد إمساك الدكتور سمير جعجع دفة القيادة، على الرغم من العواصف والأنواء، الداخلية والخارجية التي تقاذفتها حينذاك.

هذه المقاومة التي استبسلت في الحرب وسقط شهداؤها في ساحات الوغى والشرف، على رقعة الوطن من بيروت وتحديدا الأشرفية، والسوديكو، والرميل، والصيفي، والكرنتينا، والباشورة، ورأس النبع والأسواق التجارية. مرورا بمثلّث الصمود، بفرن الشباك وعين الرمانة، والشّياح، وصولا حتّى الحدث والليلكي، والكحالة وبعبدا، وسوق الغرب، فالشمال من شناطة ودير بللا، وقنات، إلى الكورة والبترون، وجبيل والعاقورة والزعرور في المتن، طبعا من دون أن ننسى بلدات شرق صيدا ومنطقة جزين.

وكلّها محطات تكاد لا تخلو منها دسكرة أو قرية أو بلدة أو مدينة لبنانية، توهّج فيها نفس مقاوم. وكما في الحرب، أيضا في السلم والسياسة، خطت القوات اللبنانية ملاحمها السلمية والوفاقية بشجاعتها المعهودة. فمشت في اتفاق الطائف مستظلة بعباءة البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، وقد رأت فيه مع سائر القوى حلا متوازنا للقضية اللبنانية يمكن أن يشكل بداية لإعادة بناء الوطن ولملمة أشلائه.

فدفعت غاليا ثمن السّلم مقدّمة كلّ الدّعم والتّسهيلات إلى الشرعية من أجل قيام الدّولة اللبنانية. لكّن حسابات حقل المقاومة، لم تتطابق مع حسابات بيدر الدّولة الأمنية. ورغم نهاية الحرب والخطط الأمنية وسكوت المدفع، استعرت حرب من نوع جديد طاولت قيادة القوات وكوادرها وجمهورها. فبدأت حملة التضييق ضدّ المراكز والمؤسسات ذات الصلة. فكان التعذيب والسجن وفبركة الملفات السمة التي طبعت بداية فترة يفترض أنّها مرحلة المصالحة والسّلام الذي بقي مفقودا محتّما انطلاق مقاومة ولكن من نوع آخر برعوا فيها كما خلال الحرب باذلين شهداء التعذيب والتفجير والاغتيال. من فوزي الراسي إلى جورج ديب ونديم عبد النور وبيار بولس، وسامي أبو جودة وسليمان عقيقي، وصولا إلى رمزي عيراني، وما لبثت أن بلغت ذروتها باعتقال الدكتور سمير جعجع في أقبية وزارة الدّفاع طوال تلك الفترة ولمدة إحدى عشرة سنة، استمرت خلالها المقاومة بزخمها مع النائب ستريدا جعجع، متخذة من بيت يسوع الملك مع المخلصين، مركز عمليات أدارت فيها مرحلة من أصعب المراحل. تعاظمت تحدياتها وصعوباتها مع ارتفاع منسوب الضغوطات والمحاولات لقمعها وفرض واقع يتلاءم مع مخططات الدولة الأمنية.

هذه المقاومة التي استمرت بفضل إيمانها بلبنان وبالقيم المسيحية وفي طليعتها المحبة والانفتاح على الآخر، لطالما فعلت فعلها فعملت تحت جناح وتوجيهات البطريركية المارونية ومباركتها. وباتت مكوّنا أساسيا في لقاء قرنة شهوان، برئاسة المطران يوسف بشارة الذي جمع النخب المسيحية لنضال جديد من خلال اللقاء، والتشاور مع بقية الأطراف اللبنانية الحرة من مختلف الأطياف اللبنانية، وقد تجسّد فيما بعد بلقاء البريستول، غداة اغتيال الرئيس الحريري، والذي أنتج حركة شعبية شملت لبنان من أقصاه إلى أقصاه. فكانت ثورة الأرز التي أزهرت في 14 أذار من العام 2005، داحرة الاحتلال السّوري، بعد أربعة عقود بزغ إثرها فجر الاستقلال الثاني.

وبخروج الوطن من سجنه الكبير، خرج الدكتور جعجع من سجنه الصغير، فاستعاد لبنان إشراقته بعد مغيب المرحلة الظلامية ليبدأ العمل على صوغ حقبة جديدة تأخذ بالاعتبار القيم والمبادىء التي كانت أساس القضية اللبنانية والتي ضحّى الشهداء الذين سقطوا أو أولئك الأحياء منهم والذين لا يزالون مناضلين مع كلّ الأجيال الراهنة التي تحمل المشعل اليوم من أجل بناء لبنان شارل مالك وبشير الجميل والبطريرك صفير والرئيس كميل شمعون وكمال جنبلاط ، والمفتي حسن خالد، والإمام موسى الصّدر ورفيق الحريري.

إنّه لبنان ال 10452 كلم2 غير منقوص، جامعا أبناءه على مختلف أطيافهم ومناطقهم وثقافاتهم. لبنان الرسالة والعيش المشترك. كما وصفه قداسة الحبر الأعظم البابا القديس يوحنا بولس الثاني، نموذجا يحتذى منارة تضيء شمسه سماء الشرق والعالم. غنيّ بأبنائه الرافعين اسمه في العالم. مسالما مزدهرا وموئلا للحرية والديمقراطية ومقصد سياحة واستجمام.

مثلما كان على الدوام شامخا شموخ الأرز ملء الزمان. وكالسرو في حرمون وبراعم الأزهار في الجبال والآكام وموطن الزهر العابق أريجه في كلّ الأرجاء. هكذا أراده الله أن يكون. وسوف يبقى ويستمر إلى الأبد بهمة المقاومة اللبنانية.

ليحيا لبنان.


Current track
Title
Artist

Mix FM مع انطوان صفير: الجمعة والسبت العاشرة ليلاتابعوا