Home

السّلطة الرابعة ترعبهم

02-05-2020

بقلم سيمونا حدشيتي

مسيرتهم بدأت منذ الإنتداب العثماني، مرورًا بالإستقلال الأوّل، وصولًا للإستقلال الثاني.

مسيرتهم كتبت بالحبر الأحمر، إذ كانت كلماتهم وأفكارهم تُرعب الأنظمة الديكتاتورية والارهابيين والحاقدين.

حاربوهم بحبل المشنقة، بالرصاص، بالمتفجّرات، اعتبروا أنّه بإسكات أقلامهم يصلون إلى مبتغاهم، ولكنّهم لم يعوا أنّ حبر أقلامهم لا يَنشَف، فهم  سلّموا أفكارهم  لقرّائهم، وأضحوا شهداء على مذبح الوطن، شهداء الصّحافة اللبنانيّة.

لم يبخل الصّحافيّون على لبنان بدمائهم، وناضلوا من أجل الحريّة والسيادة والإستقلال. وبالأسطُر القليلة الآتية، نتذكّر عددا من الشّهداء الذّين قُدّموا قرابين على مذبح الحريّة.

سقط الشّهيد تلو الشّهيد، والشّعلة كانت تنتقل من صحافي لآخَر.

تاريخ جمال باشا السفّاح معروف بالسّواد، ويداه لم تنشف من دماء اللبنانيين. ففي 6 أيّار 1916، عَلَّق المشانق لعدد من اللبنانيين، بينهم أسماء صحافيين كتبوا عن مآسي يعيشها لبنان واللبنانيون بعهد العثمانيين. عُلِّقِت المشانق في ساحة الاتحاد وسط بيروت، التّي عُرِفِت في ما بعد بساحة البرج، والمعروفة الآن بساحة الشهداء.

من الشهداء الّذين شُنِقوا في هذه الساحة: الاخوان محمد ومحمود المحمصاني، وعبد الكريم الخليل، وعبد القادر الخرسا، ونور الدين القاضي.

في وضحِ نهار 6  أيّار،  أُعدم 11 صحافيا وهم: الشيخ أحمد حسن طبارة (صاحب جريدتي “الاصلاح” و”الاتحاد العثماني”)، سعيد فاضل عقل (صاحب جريدة “البيرق” في بعبدا، ورئيس تحرير عدد من الصحف أهمها “النصير” و”الإصلاح” ولسان الحال”)، عمر حمد ( شاعر شعبي ومحرر صحافي، كتب في جريدتي “المفيد” و”الإصلاح”)، عبد الغني العريسي (صاحب “المفيد” و”فتى العرب” و”لسان العرب”)، الأمير عارف الشهاب (المحرر السياسي البارز في جريدة “المفيد”البيروتية)، بيترو باولي (مدير جريدة “الوطن” ورئيس تحرير جريدة “المراقب” البيروتية”)، الصحافي الشهير جورجي حداد (كتب في جريدة “المقتبس” بدمشق، وجريدتي “لبنان” و”الرقيب” في بيروت).

لم تقتصر أعمال جمال باشا السفّاح على إعدام هذه الأسماء فقط، إذ نفّذ في 5 حزيران 1916، بعد شهر، نفّذ أحكاماً في حق الشهيدين فيليب وفريد الخازن أصحاب جريدة “الأرز”.

بعد نيل لبنان الإستقلال فور الإنتهاء من الإنتدابين العثماني والفرنسي، كان لدى اللبنانيين الأمل أن تتوقّف أعمال تصفية الصّحافيين، ولكن هذا الأمر تكرّر، وأضحوا مُستَهدفين بعمليات الاغتيال، نذكر أبرزهم نسيب المتني الذّي عارض التمديد للرئيس الراحل كميل شمعون وجاهره بمعارضته. رصاص مجهول المصدر غَدَر بنسيب وأصاب جسده ليل 7 ايار 1958، أثناء “ثورة 1958”. استُشهد نسيب وغابت معه الصحف اللبنانيّة ثلاثة أيام حداداً.

بعد ثلاثة أشهر، في 19 ﺃﻴﻠﻭل  1958، كان الخطف من نصيب ﺍﻟﺼﺤﺎﻓﻲ ﻓﺅﺍﺩ ﺤﺩﺍﺩ المعروف بأبو الحنّ لحظة خروجه من وزارة التربية. قرّاء الصّفحة الأولى في جريدة العمل تعوّدوا على كلماته اللاذعة، وتعليقاته السّاخرة. هذه الصّفات كانت كافية لإختطافه وقتله على أيدي مجهولين عن عمر ناهز ال  43.

في 16 أيّار 1966، أيّار الذّي على ما يبدو اعتاد على خسارة دماء الصحافيين،  إستيقظت دار الحياة على دماء الصّحافي كامل مروّة الذي كان من ألمع صحافيي جريدة النّهار سابقًا، وربطته صداقات بملوك ورؤساء عرب. وُجِد مروّة مضرجاً بدمائه خلف مكتبه في دار الحياة.

في 16 أيّار 1976، أي بعد مرور عشر سنوات على اغتيال مروة،  كانت الشهادة من نصيب الصّحافيّ المتألّق إدوار صعب الذّي تربع على عرش الصحافة اللبنانية الناطقة باللغة الفرنسية، وعلى عرش الشهادة لاحِقًا.

واللافت بعض الكلمات الذّي قالها لزوجته نهى شلحط قبل استشهاده: إنّ لبنان سيحتجب فترة. ومنذ اليوم وحتى عشرين عاماً، سوف يفقد لبنان سيادته وحرية قراره. لكن بعدها سينهض كبيراً من كبوته منتصراً على الأعاصير كلها”.

كانت آمال صعب أصعب من أن تُصبِح حقيقة، وينهض لبنان من كبوته.

مسلسل اغتيال الصحافيين أثناء الحرب طالَت حلقاته، الأمر الذّي يؤكِّد قول  الجواهري: “طرق المجد موعرات عليها، كل يوم في كل شبر شهيد”.

ففي 4 آذار 1980، وُجدت جثة الصحافي سليم اللوزي في أحراج بلدة عرمون، بعد 8 أيام على اعتراض مسلحين سيارته على طريق المطار وكان معه زوجته وشقيقتها وسائقه ومرافقه. سليم الذّي استُشهِد بطلق ناري في رأسه، عُذّب بحَرق يدِه بالأسيد. حياة اللوزي الصحافية بدأت في مجلّة “روز اليوسف” في مصر، ومن ثَمّ اشترى امتياز “الحوادث”، وكان يُعرَف بتوقه للحريّة من خلال قلمه اللاذع.

وكان الشهيد اللوزي ختم في إحدى المرات أحد مقالاته بقوله: وغداً إذا ما اغتالتني المخابرات العسكرية (السورية) أكون قد استحققت هذا المصير لأنني أحب بلدي وأخلص لمهنتي.

“يا قاتل يا مقتول” هذه المقولة لا تَنطبق على أيّ صحافي لأنّه دائمًا مقتول، فهو شهيد حيّ من شهداء الكلمة والقضية.

نقيب الصحافة رياض طه، وبعد 13 عامًا على انتخابه، سقط شهيدا في 23 تمّوز 1980 بعدما اخترقت جسده 6 رصاصات من النّوع المُتفَجِّر كانت كافية لإيقاف قلمه.

اعترض سيارته مسلحين بثلاث سيارات في منطقة الروشة في بيروت، أطلقوا النار عليه وفرّوا إلى جهة مجهولة. أَدَّت العملية إلى مقتل طه مع مرافقه سهيل خضر الساحلي، واتهم كل من خليل عباس الموسوي وعبد الإله محمد الموسوي في هذه الجريمة. المحاكمة في هذه القضية أرجئت لأجل غير مسمّى رهن أمرين: استسلام المحكوم عليهما، أو القبض عليهما لمحاكمتهما وجاهياً قبل سقوط العقوبة بمرور الزمن.

واعتبر جهاد طه، نجل رياض طه، أنّ اغتيال والده في وضح النهار رمياً بالرصاص  كان المطلوب منه القضاء على الرجال الشرفاء الذّين يَريدونَ وحدة الوطن واستقراره.

النّقيب الشّهيد كان، وقبل استشهاده، كرّس 6 أيار ذكرى شهداء الصحافة.

في 9 تموز 1985، سقط سمير عاصم سلام رئيس تحرير مجلة  “الفهرس” مع زوجته وولديه قتلاً في منزلهم في رأس بيروت.

في 24 شباط 1986، خسرت الصّحافة اللبنانيّة رئيس تحرير “النداء” سهيل طويلة، وهو المدير العام المسؤول في مجلة “الطريق” وأحد الوجوه البارزة بالحركة الوطنية اللبنانية والحزب الشيوعي اللبناني، وربحته شهيدًا على مذبح الوطن الذّي كان يتوق للكلمة الحرّة.

كان للصحافي حسين مروة كلمات رثى فيها صديقه بعد أيام على اغتياله وقال: “شهيداً شيوعياً صحافياً مات سهيل طويلة. موت الشهيد الشيوعي موت آخر. هو التقمص من نوع آخر، انه يتقمص الحياة الأوسع والأعمق حياة كل الطيبين.””

بعد سنة كاملة على اغتيال سهيل طويلة، وفي ذكرى استشهاده السنويّة، أطلق 3 مجهولين رصاصات على صديقه الصّحافي حسين مروّة في منزِله. الصّحافي المُلَقّب بالشّيخ حسين، حائِز على جائزة لوتُس العالمية للأدب من اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا في العام 1980. وكان دائِمًا يقول: وُلِدتُ شيخًا وأموت طِفلًا.

أزمنة عدة في مكان واحد، يشهد اغتيالات لعدد من الصحافيين اللامعين في مجالِهِم، وكانت كلمتهم مصدر رعب للحاقدين الذّين بدّوا المصلحة الخارجيّة على لبنان، أو كانت الأقلام “القارصة” تهدّد مناصبهم فكان الأمر بالإغتيال الأسهل بالنّسبة لهم. فبعد الطائف اغتيل 8 صحافيين لبنانيين من وسائل إعلامية مختلفة.

في 15 كانون الثاني 1992، اغتال مسلحان الكاتب والباحث مصطفى جحا بإطلاق النار عليه في سيارته بالقرب من منزله في السّبتية.

وفي التّفاصيل، كان جحا أوصل ابنه في الصباح إلى كلية الشرق الأوسط، وبطريق العودة إلى المنزل، اعترضته سيارة مجهولة الرقم والنوع فيها ثلاثة مسلحين، نِزِل منها شخصان، توجّها نحو سيارته وأطلقا عليه النّار بعدد كثيف من الرّصاص من مسدسين مزودين كاتمين للصوت.

في العام 1975، مع اندلاع الحرب  كان الكاتب المؤيد لحزب الكتائب آنذاك هرب من المنظمات الفلسطينية في منطقته صور إلى الدامور أيضاً، ومنها إلى ما كان يعرف آنذاك بالشرقية.

في عام 1993، شنّت إسرائيل عملية جوية عُرِفِت بعملية “تصفية الحساب” ضدّ حزب الله في الجنوب، فكان الإستشهاد من نصيب مراسل قناة “المنار” أحمد حيدر.

ويقول المؤلّف والأديب الرّوسي ليف تولوستوي: “نفير السلام وصوت الأمة وسيف الحق القاطع، ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم، تهزّ عروش القياصرة وتدكّ معالم الظالمين”.

هذه المقولة انطبقت على أسباب الإغتيالات التّي عادت في العام 2005، وتحديدًا في 2 حزيران، مع اغتيال محرّك “انتفاضة الاستقلال 2005” ومطلق هذا الشعار، الصّحافي في جريدة النّهار سمير قصير الذّي فجّرته يد الغَدِر بقنبلة وُضِعِت داخل سيارته في الأشرفية. فصاحب الكلمات التّي سَهَّرَت القرّاء على مدى سنوات كان عمره قصيرا وأضحى شهيد “ربيع بيروت”.

على مذبحة الحريّة، والسّيادة والإستقلال، قدّمت جريدة النّهار جبران التويني شهيدا آخر صباح 12 كانون الأول 2005. لبنان وساحات الحريّة كالنّهار، خسروا الذي كان قلمه وحنجرته وآراؤه السياسيّة تُنادي بالحريّة، وباستقلال جديد للبنان. خسروه بانفجار سيارته في المنطقة الصناعية في المكلّس. فاستُشهِد على الفور مع إثنين من مرافقيه اندريه مراد ونقولا الفلوطي.

ببعض الكلمات النّابعة من قلب خائف على لبنان، وبصوت وصَل صَداه لأبعد الحدود، سار جبران بانتفاضة الإستقلال في 14 آذار 2005، وتحوّلت هذه الكلمات لقسم يردّدُه الآلاف.

في 22 تموز 2006، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، استُشهد سليمان الشدياق مدير محطة إرسال تابعة للمؤسسة اللبنانية للإرسال في منطقة فتقا أثناء القصف الاسرائيلي على الهوائيات. وبعد يوم واحد، استُشهِدَت المصورة الشابة ليال نجيب البالغة مِنَ العُمر 23 عاما في القصف الإسرائيلي وهي متوجهة إلى بلدة قانا. وكانت نجيب تَعمَل في مجلة “الجرس” وتتعاون مع “وكالة الصحافة الفرنسية.”

بعد انتهاء عدوان تموز، بقيت الانتهاكات الإسرائيلية على حالِها. وبرصاص من الجيش الاسرائيلي، استُشهِدَ مراسل جريدة “الأخبار” عساف بو رحال في خلال متابعته للإعتداء الاسرائيلي على منطقة العديسة في 3 آب 2010، واشتباك القوات الاسرائيلية مع الجيش اللبناني.

في 9 نيسان 2012، وفي تغطية فريق عمل قناة الجديد في منطقة وادي خالد في الشّمال، إنهال وابل من الرصاص عليهم أثناء نقل أوضاع المنطقة الحدودية بعد اشتباكات شهدتها بين الجيش السوري والمعارضة السورية، فاستشهد على الفور المصوّر علي شعبان.

في لبنان، تختلف الحقبات وتتنوّع المراحل، ويد الإجرام لا تتعب وهي تحاول قمع أقلام الصّحافيين واغتيالهم. ولكن ما معنى الموت والاغتيال بالنّسبة لرجال مشروعهم الشّهادة؟

ومع الشّاعِر أحمد شوقي نُرَدّد:

لكلِّ زمانٍ مضى آيةٌ …. وآيةُ هذا الزمانِ الصُّحُف

لسانُ البلادِ، ونبضُ العباد …. وكهفُ الحقوق وحربُ الجنَف

تسيرُ مسيرَ الضحى في البلاد …. إذا العلمُ مزَّق فيها السَّدف

وتمشي تُعلِّمُ في أُمةٍ …. كثيرةِ مَنْ لا يخُطُّ الألِف!

للإستماع إلى الحلقة ضمن برنامج ب ٤٠ دقيقة، عبر الرّابط الآتي:

https://www.rll.com.lb/2020/05/01/bi-40-d2i2a-press-martyrs/


Current track
Title
Artist

اوعى ما توعا مع جنى غازي: الساعة الثانية عشرةتابعوا