Home

يسوع في لبنان

23-11-2019

 بقلم روكز مزرعاني

وصلَ على غفلةٍ الى المنطقة التي جال فيها مع تلاميذهِ فيما مضى…

وما إنْ سَمِعَ أصدقاؤه خبر وصولِه حتّى تنادَوا الى لقائه…

طلب منهُم يسوع الذّهاب الى حيثُ يتجمَّعُ شابّات وشباب لبنان في ثَوْرةٍ بَلَغَت إليهِ أصداؤها…

وَصَلوا الى قريةٍ قائمةٍ في أعلى التَّل مُطلَّة على العاصمة بيروت…

كان الوَقتُ بعد الظَّهيرة… جلس يسوع على صخرةٍ ينظُر الى ما يحدُث في أرجاءِ العاصمة…

وفيما كان يتأمّل هذا المشهد المؤثِّر، وقَفَ عصفورٌ على غُصنِ شجرَةٍ قريبةٍ ومضى يُغنّي مُتأمِّلاً السّماء، في حين يسود السّكون المكان المذكور…

استَوْلَت الدَّهشَةُ على المجموعة… ولمّا حدَّقوا في وجه يسوع، لاحظوا دموعًا تسيلُ على وجنتيه …

وبعد فَترةٍ من الصَّمت، طرأ على بالِ أحدهم هذه الأسئلة:

“لِمَ يحدثُ هذا الآن؟ لِمَ يدفع لبنان الثّمنَ دائمًا؟ ألا يكفي ما مرَّ عليه طوال ثلاثينَ عاما مِن عُنفٍ وقتلٍ ودمار؟ لِمَ هذه المأساة؟ الى متى؟ أين كنتَ يا يسوع في تلك السّنين القاهرة؟ وأين أنتَ ممّا يجري منذ شهر ونيّف؟ أين أنتَ في خِضَمِّ هذه الثّورة والعنف والكراهية التي تواجَهُ بها؟ أَكُنتَ نائمًا في عليائك السّماويّ كما كان الحال في السّفينة وسط العاصفة؟

هزَّ يسوعُ رأسه ونَظَرَ الى الأفُقِ مُردِّدًا بِصَوتٍ خافِت:

“نعم لماذا؟ لماذا عانى هذا اللّبنان الحروب والتَّهجير والمَوت والدَّمار والعُنف والقِتال… وهوَ يُعاني ويواجِهُ اليومَ الجوعَ والهجرَة والبَطالَة واليأسَ الذي يَطالُ شبيبَتَهُ للبقاء في ربوعه”…

ثمّ الْتَفَتَ الى أصدقائِه وتابعَ :

“أتظنّونَ أنّي أنا وراء هذه الأحداث؟ أتظنّونَ أنّني أُحرِّكُ البشر كما يُحرِّكُ الفنّان ريشتهُ؟ أتظنّونَ أنّني أتَحكَّمُ بالتّاريخِ وأوجِّهُهُ كما يحلو لي، لأُحقِّقَ خُطَّةً مرسومَةً منذُ الأزل؟

أَلَمْ تَفهموا بعدُ، أنّني استودعتُكم هذا العالم لتكتُبوا أنتُم صفحاتِ تاريخِه وتُوَجِّهوا أنتُم مصيره؟

أَلَمْ تفهموا بعد أنَّ تلكَ الحُرّية التي وهبتُكُم إيّاها، قد تدفعُكُم الى البناءِ أو الهدم، الى الحُبِّ أو الكراهية، الى القبولِ أو الرّفض، الى الخيرِ أو الشّر، الى الأفضل أو الأسوأ، حسبما تَرتأونَ وتُقرِّرونَ أنتم بأنفُسِكُم؟!

إنَّ تلكَ الحرّية هي عنوانُ عظمتِكُم وكرامَتِكُم وأروعُ ما تَملِكونَهُ، فهيَ التي تجعلُكُم بشرًا لا آلاتٍ غشيمة، وهي التي تُتيحُ لكم فُرصَةَ اختيار مسارِكُم ومصيرِكُم…

عندما خَلقتُكُم أحرارًا، قَبِلتُ بملءِ إرادتي أن أُقيِّدَ ذاتي بذاتي، فأمسَت يدايَ مغلولَتَينِ وأنا أعلمُ عِلمًا يقينًا أنَّ تلك الخَطوة تُمثِّلُ مغامرةٌ جنونيّة، حيثُ إنَّ الحُرّية سلاحٌ ذو حدَّينِ يُثيرُ الرُّعبَ والرَّهبة، وفي الوقت نفسه قد تؤدّي تلكَ الحُرّية الى انفلاتِ الأمورِ على نِطاقِ سَيطَرتي فَتؤولُ الى إخفاقٍ ذريع… وخيرُ دليلٍ على ذلك هذا اللُّبنان الذي كان يُطلَقُ عليهِ اسمُ سويسرا الشّرق، ها هو اليوم يتحوَّلُ الى بلدٍ على شفير الإفلاس والانهيار…

نعم، لماذا لم أتدخَّل؟ لأنَّكُم كبَّلتُم يديَّ عن التَّدخُّلِ عندما خلقتُكُم أحرارًا، ومنذُ تلكَ اللَّحظة أصبحَ هذا العالَمُ عالمكم وهذا التّاريخُ تاريخكُم… ولكنّني في الوَقتِ عينه، ارتبطْتُ بهذا التّاريخِ وانغَمَستُ فيه… وعندما تسألونَني لِمَ بقيت صامتًا حينَ كانَ هؤلاءِ النّاسِ يتقاتلونَ ويتصارعون؟ هل تَعتقدون أنّي كنتُ فِعلاً على عرشي السّماويّ مُحاطًا بملائكتي لا آبَهُ لما يجري، كما يظُنُّ كثيرون؟؟؟

لا يا أصدقائي… على العكس…

فأنا كنتُ في صَميمِ المَعرَكَةِ، وَسْطَ هذه القُرى الجميلة التي دمَّرَتها القذائف مرَّةً واثنتينِ وأكثر، صارخًا بين ضلوع الأطفال المُتشبِّثينَ بِجُثَثِ أُمَّهاتِهم… شاعرًا بالذُّلِ والعارِ في قلبٍ كُلِّ فتاةٍ تمَّ انتهاكُ جَسَدِها… مُمَزَّقًا في جَسدِ الجُنديّ الذي مزَّقَتْهُ قذيفةٌ غاشِمة… باكيًا مع كُلِّ والدٍ فقد فِلذَةَ أكباده… راكِعًا مع كُلِّ أُمٍّ كانت تدعو وتُصلّي لأولادها…

إنَّ المُخاطرةَ التي خاطَرْتُ بها حينَ مَنَحتُكُم الحُرّية، أَرَدتُ أنْ أخوضَها مَعَكُم وفي صميمِ كُلٍّ مِنكُم…

إنَّ مُخاطَرَتَكُم هيَ مُخاطَرَتي، ومُغامَرَتَكُم هيَ مُغامَرَتي، ومَصيرَكُم هوَ مَصيري، وكِفاحَكُم هوَ كِفاحي، وصِراعَكُم هوَ صِراعي، وعَذابَكُم هوَ عَذابي، واحتضارَكُم هوَ احتضاري، ومَوتَكُم هوَ مَوتي…

إنّ هذا الجسدَ العاريَ المُتدلّيَ والمُتأرجِحَ على صليبِه الذي ترونَهُ مِن خلال تلكَ الثّغرة السَّوداء وَسْطَ أطلالِ هذه الكنيسةِ، إنَّما هوَ جَسدي المُعلَّقُ بينَ سماءٍ وأرضٍ حتّى آخِرَ أيّامِ التّاريخ”…

توقَّفَ يسوعُ عن الكلام، وتوقَّفَ العُصفورُ عن الغِناء… وانطَلَقَ ليَتوارى في ثقْبِ الكَنيسَةِ المُظلِم…


Current track
Title
Artist

بـ 40 دقيقة مع سيمونا حدشيتي الساعة الرابعةتابعوا
+